Get Mystery Box with random crypto!

المحاضرة ٢٩ خطب امير المؤمنين ومواعظه وتأكيده على جانب التقوى | 5.مؤسسة منبريون للخطابه🧿

المحاضرة ٢٩
خطب امير المؤمنين ومواعظه وتأكيده على جانب التقوى

إنا إذا أردنا أن نعرف نهج البلاغة، أو الإمام عليه السلام خطيباً واعظاً وناصحاً مشفقاً، أو مدرسته الإرشادية، كي نستفيد من ذلك المنبع الفياض، لا يكفينا أن نعدّد المواضيع والعناصر المطروحة في نهج البلاغة فقط، لا يكفينا أن نعلم أن الإمام عليه السلام قد تكلم في نهج البلاغة في التقوى والعبادة والحق والدنيا مثلاً... بل يجب علينا أن نتعرف على تلك المفاهيم الخاصة التي كان يفهمها الإمام عليه السلام من هذه المعاني، وأن نعرف فلسفته التربوية الخاصة في تربية الإنسان المسلم، وترغيبه في الطهارة والنجاة من أسر الأرجاس والأنجاس، والتحرر المعنوي عن ربقة الدنيا.
ولهذا يجب علينا أن نتكلم بشي‏ء من التفصيل في مفاهيم هذه العناصر في مدرسة الإمام عليه السلام. ولنبدأ حديثنا هذا بالكلام حول التقوى.
 
التقوى
إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتني به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟
يفترض الكثيرون: أن التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!

إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والشطط، ومن لم يحظ بهذه الحالة لا بد له  إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية  من أن يبعد نفسه عن أسبابها. وحيث إن البيئة الاجتماعية مليئة من أسباب المعاصي فلا بد له من أن يختار الإنزواء التام!
وعلى هذا: فلا بد إما أن نكون أتقياء وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة! أو أن نرد المجتمع فنتخلى عن التقوى! وعلى هذا: كلما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع!
أما إذا حصلت الروح الإنسانية على (ملكة التقوى) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال. إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم مما هم فيه من الألم.
"... ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلاث حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات... ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار.. ألاّ وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..." (2).
"... إن تقوى اللَّه حمت أولياء اللَّه محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم" (3).
وفي هذه الكلمة يصرح الإمام عليه السلام بأن التقوى شي‏ء يكون الحذر من الحرام والخوف من اللَّه من لوازمه وآثاره.
"فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة" (4).
نرى أن الإمام عليه السلام قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس.
 
التقوى "وقاية لا قيود"
لقد أكد الإمام عليه السلام في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى: وقاية لا قيود... فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين (الوقاية) و(القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر عن القيود والخروج عن الحدود...
ولا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان.
يقول الإمام عليه السلام:
".. اعلموا عباد اللَّه: أن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألاّ وبالتقوى تقطع حمة الخطايا"(5).
وكأنه عليه السلام يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات، ويقول: اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى. ويصرح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشأها.
".. فإن تقوى اللَّه مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة..."(6).
واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادية، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات.